تقول التي وجهها كالقمر
أريد الحياة
أقول لها: وأنا
غير أني على غير ما ترغبين
لم أكن أعرف الطقس
ولأعترف
لم أقدر كما ينبغي ما يكون
أسألها، فيما نمشي برفق، منحدرين معًا عند نهاية المساء، ومنحدرين معًا من أعالي تاريخنا الغريب والمرير. للهواء الخفيف وقع عند نهاية المساء، وقعٌ للنهايات، أن وقتًا قد انقضى، لهذا الهواء شعور بالنهاية، بأنها آخر مرة ربما، وبأن نزهات الورد كلّها، مهما طاب الربيع، ستنقضي، وأن الأيدي الناعمة، مهما حسن جمالها، لن توقف ماء النهر. أسألها، وأنا الذي لا أنتبه للوقت إذ أفكر في الوقت، ولا أنتبه للورد إذ أفكّر للورد، وأحسد أولئك الذين، مثلها، لا ينشغلون بالوقت، ولا بالهواء الخفيف يتسلل تحت الثياب، ولا بزُرقة المساء إذ تنقضي الظلال الصفراء الحارة. ليس ألا أن يكون هواءً خفيفًا، ولا للورد إلا أن يكون زينة حلوة على رأس الصبيات، وعلى قمصان شبّان القرى. أولئك الذين ينسون الوقت، ولا ينتبهون للمساءات الصيفية إذ تذوب في عتمة الليل، كلّ يوم.
ماذا تفعل الآن ليلى
أتنسى مواعيدها؟*
/
وهي عاملة إيه دلوقت؟
ومين هوّن عليها الوقت؟
أسألها، وأنا المحتار في الأسماء* عن اسمها*، وعن كيف لها أن تكون لها مثل تلك الخفة، تلك التي لا تُشبهني، تلك التي تُشبه رؤوس الأشجار الصغيرة، خفيفة من تاريخها، ومن يوم صيفي يخلو فيه المرء مع من يحب، ومن سطوح البيوت والدكاكين ومحلات الألعاب. أسألها عن الهواء والورد والمساء، أقول، كيف لنا أن ننسى مواعيدنا؟ وأن ننسى العمر، وما نضع أيدينا على ماء النهر، فيتوقف، وأن نفكر في النزهات، معًا، كما نحن الآن، وأن يكفي ذلك كي ننسى أن النزهات تنقضي. أسألها عن كلّ ذلك، وأنا المُستحي من أن يمتد خط أفكاري، وأن يطول السؤال أبعد من خط النزهات الرقيق والوديع.
-بنغلا قالت لي، وسأخبرك عن الوقت. أن لي ربما، ذكريات قليلة مع الوقت، وسأقول لك منذ الآن، ولربما أحسست بذلك، ولربما سألت لذلك، بأنني لا أفكر في الوقت. أما عن الأيدي التي توقف النهر، وعن الورد الذي يظل وردًا على رؤوس الصبايا، فسأقول لك بعضًا مما أذكر.
الحكاية الأولى: الورود لا تذبل على صفحة الماء
بنغلا:
-كنت أحدّق، كأني أراني من بعيد، وأنا، إذ أدرت وجهي لكي أراني، من حيث كنت جالسة على عتبة الباب، رأيت نفسي وقد تمددت، وصار جسمي كأنه يطفو على النهر. صار بيتنا النهر، وأحسست بالماء تحت ركبتي. كل العيون كانت تطفوا الآن حول الوجه البدر، وأنا أُعلي عيني لكي لا يغمرها الماء، وأنا أنظر لأوراق الأشجار فوق النهر يلوحها الهواء كأنها العصافير. كان الماء يلمع قرب وجهي يا حسين، وعيون كثيرة يعليها النهر ثم يغرقها.
كان وجهي لا زال يطفو على النهر، والأشجار التي يحركها الهواء الخفيف في الربيع بدأت توقع بعض أزهارها، سقطت واحدة في كفّي. عندما أدرت نظري عن رؤوس الأشجار فوق الماء لكي أراها، أدركت بأن الماء قد غمر كل العيون، وأنه لم يعد، فوق صفحة النهر سوى الأزهار الضئيلة التي طفت، وأنه لم يعد سواي وسوى النهر. لكنهم كانوا يحكون في القرى، أنه في ذلك اليوم، أتى الناس من الضياع كلّها، وتفرّجوا على الورود فوق الماء، وعلى الوجه البدر، وأن الناس تركت سياراتها في الشوارع، ولف القرية هدوء غريب. قالوا أن الهدوء كان عميقًا مثل الماء، وأن صوت النهر، تسلل إلى كلّ البيوت التي لفها صمت النهار، وأن الأزهار، لمرّة واحدة، لم تذبل فوق النهر.
الحكاية الثانية: عصير الأندلس
بنغلا:
-كنّا ثلاثًا، وكنا نتمشى هكذا، عند نهاية المساء، مثلما نحن الآن، والهواء على الوجه الجميل، يحمل العمر الذي لا يذهب. وكنا نريد أن نتخفف من حرّ آخر الصيف، والمواعيد التي نسيناها، ومن تاريخنا وبيوت لفّها النهر، ومن الصبية يترامون بأجسادهم فيه. كنّا ثلاثًا، أصدقاء*، في نزهات في قرى لا نعرفها، تُشبه قُرانا، ولها نفس أسمائها، ولها ناس مثل ناسنا، وكان فيها دكاكين ومحلات ألعاب تشبه ما نعرفه، من محلّات القرى، وأضوائها الصغيرة التي تلمع عند نهاية المساء. كان إسمه نخلة، ودعانا إلى محلّه، قال أنه محلّ أبيه، ونحن أحببنا لُطفه، والورود الصغيرة التي علّقها فوق المحلّ. "عصير الأندلس"، هكذا بخط كوفي، من الخطوط التي أتت مع الحواسيب عندما كنا صغارًا، وفوقها وردتان من البلاستيك، لا تذبلان.
-هيدا شو؟ قالت له فاني، وهي تؤشر بإصبعها على واحد من العصائر التي تظهر في الصورة المعلقة في المحل، تلك التي أصبحت ألوانها كلّها زرقاء، وصارت كلّ كبايات العصير المعروضة صورها فيها تُشبه بعضها، تلفها زُرقة تُشبه زُرقة نهاية المساء.
أجاب: -هيدا فيه فريز وغوافة وقلوبات
-إلو معنى اسم فريموزا؟
-لا هيك الوالد سمّاه، كان عندو محل عصير بالكويت، وهيك كانوا يسمّوا
-طيب وهيدا؟
-هيدا تاهيتي
-وشو بيفرق التاهيتي عن الفريموزا؟
-ما بعرف الصراحة. ثم يضحك، ناظرًا للصورة، محاولًا أن يفرّق بين الصورتنين التين بدتا وكأنهما صورة واحدة. آه، هيدا فيو زيادة قطع تفاح، يعني متل الأولاني بس فيو تفاح.
كنّا نُحرك أصابعنا فوق الصورة الكبيرة، التي كان ضوءها يملأ المحل، ونضحك، نحن الثلاثة، ويضحك معنا، هو، الذي راح يُخبرنا، كأننا أول من يسأل، عن كل واحدة من العصائر.
وضعت يدي على صورة كانت تختلف قليلًا عن أخواتها، وكان اسمها غريبًا، ليس أن اسماء تاهيتو وفريموزا وشيكوماسا تخلو من الغرابة، لكنها كانت لها اسم غريب في موقعه، أو ربما ظننت ذلك أنا، وحدي.
"كوكتيل عبد الرحمن الداخل"، مكتوبة تحت كباية عصير، وكانت، مثل أخواتها، قد بهت لونها، وكادت الكتابات الموجودة تحتها أن تضمحل تمامًا.
- وهيدا شو؟ مين يعني عبد الرحمن؟ الوالد؟ سألت
-لا البابا إسمو علي، هيدا عبد الرحمن الداخل كان ملك الأندلس.
-اااه عشان هيك اسمو عصير الأندلس
-إيه، وعشان هيدا الزلمي كان يعيش كأنو برّات الوقت. عشان هيك بيي سماني نخلة، لأنو كان يحب قصتو.
-كيف يعني برات الوقت؟ سألت ثالثتنا، ليا، هي التي تكن قد اهتمت لحديثنا قبل هذا التفصيل.
الحكاية الثانية / رديف: عبد الرحمن* خرج من الوقت لثلاثين سنة
نخلة:
-عندما أحسّ عبد الرحمن بالماء على كفيّه، فيما يعبر الفرات، توقّف، كتوّقف المفارقين، وكأن بأن الرايات التي تلاحقه لن تدركه في غلس ذلك الليل، وكأن الهواء الخفيف الذي يلفح وجهه الجميل، يحمل معه العمر الذي لا يذهب. يُؤثر في تلك البرهة أن يتوقف قبلًا من أن يقطع ماء النهر وينجو، والماء على كفّيه الساكنتين ككفيّ ميت. لا شيء تغيّر يا عبد الرحمن، سوى أن يحرّك هواء الليل أوراق الشجر، وأن يتوقف مجرى النهر على كفيّك، كأغنية ذاهبة في الليل.
لم يكن عبد الرحمن قد انتبه للوقت.
فراتك يهرب أيضًا يا عبد الرحمن. أنت قديم جدًا، قد خاويت النهر/العمر، واقف فيه وواقف فيك لا تتحركان. وكما يزهر التفاح في صفو الليل، يزهر في كفّيك المتعبتين النهر ولا يذوي. يشتاق إلى أهله، ضحكات الإخوة، فتيات يتبسّمن على الورد، النخل، النخل، النخل الطالع، وآخر لمعان الغسق. يفتح عينيه، يخاف، وكأن الهواء الذي يلفح وجهه الجميل، بعد ثلاثين سنة لا يزال، يحمل معه العمر الذي لا يذهب. وحين اعتراه الشوق، بعد سنين لم يعد يعدّها أرسل إلى إخته في الشام، فكّر في عينيها الباسمتين: هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ، الصمتُ -مبتسمين- لتأنيب أمكما.. وكأنكما ما تزالان طفلين، تلك الطمأنينة الأبدية بينكما…
كان عبد الرحمن يمشي في رصافة قرطبة حين جاءه ردّها:
"أما بعد،
فقد انقضى العمر وانتهت المدة، ولإني أخاف من غوائل السفر على القرب، فكيف وقد حالت بيننا البحار والأعمار، فحسبي أن أتملى المسرة بعزة وعافية. سلاما ما هتف العمر وغنت ساعات الليل."
لم يكن عبد الرحمن قد انتبه للوقت، في غسق ذلك النهار حين رأى نخلته.
ظننتَ بأن العمر بعيد، كبعد النخل، وأن النخلة لا تكبر، -وكأنكما ما تزالان طفلين-. طويل هذا العمر يمر، وبعيدًا عن جفنيك، يكبر نخل الحزن ويزهر. يفلت من كفيّه العمر. غدرتك النخلة يا عبد الرحمن، في أثر التحديقة ما يقتله، يدرك أنه صار قديمًا.
قال نخلة وعيناه تدمعان، وأدركنا، نحن الثلاثة، أن نخلة كان قد أعاد القصة ألف مرّة، ببلاغة أدبية بديعة، هكذا، كلّ مرة، كأنها كانت قصّة عمره.
لم نعرف ما مكونات عصير عبد الرحمن الداخل، إذ أن صورته كانت أكثر صورة مُحيت، ولم نسأل نخلة، الذي فاض دمعه ثم صار يتبسّم مُستحيًا. آثرنا، نحن الثلاثة، أن نُشير إلى واحدة من القناني التي أعدّها نخلة أو والده صباحًا، كما يفعل أصحاب محلات العصير كلّ صباح، قنينة فيها عصير أصفر وأحمر، ثم سلّمنا عليه وتواعدنا على لقاء قريب، وخرجنا من المحل وكان النهار قد انقضى.
الحكاية الثالثة:
إيه بس اللي رماك؟ تعشق تاني يا قلبي؟
بنغلا:
-كُنا أنا وأُختي، في الروُاق الصغير لبيتنا في الشياح، أنت ربما لا تعرفه، ولم تزرنا فيه، كان الرواق الطويل يصل الصالون بآخر البيت حيث الحمام، وعلى نفس الخط، إذ نظرت وأنت على باب الحمام قُرب غرف النوم مثلًا، يُمكنك أن ترى الصالون والشرفة التي بعده. في ذلك اليوم كانت أمي وأبي وأختي الثالثة، وجدتنا، كلّهم على الشرفة، ولم نكن لنعرف، أنا وأختي التي كُنت معها نروح ونجيء بين غرفتنا والحمام، إذ نلبس ونحضّر أنفسنا، ما الذي يتكلّمون فيه على الشرفة، عند نهاية النهار، في زُرقة المساء المُعتادة كلّ يوم، وما كُنا لنسمع، الأغنية الرقيقة التي كانت تصعد من الشارع الصغير حيث بنايتنا، أغاني بداية المساء الرقيقة المُعتادة، من السيارات التي تروح وتجيء، والشبان الذين يغمزون من سياراتهم، لصبايا وشُبان آخرين لكي يصعدوا للذهاب إلى سهرات المساء. لم نكن قد انتبهنا للوقت، لولا أننا رأينا من الشرفة آخر ومضات الضوء والعتم الذي بدأ بخفة، يدخل البيت من الشرفة.
كان علينا فقط، أن نصفف شعرنا، أنا وهي، كما اعتدنا قبل أن نذهب إلى السهرة، في المرات القليلة التي ذهبنا فيها إلى السهرة. كانت موضة الشعر القصير، وكُنا نضع الجيل على شعرنا، وأُختي تُصفف لي شعري، وأنا أصفف لها شعرها، أمام مرآة الحمام الصغيرة، التي تتوسط بلاط الحمام الأزرق بوروده الصغيرة. إنتبهت أختي أن مرطبان الجيل كان قد نفذ، وأن الوقت قد تأخر، وأنّا قد تأخرنا أصلًا. قالوا لنا أن المُطرب سيبدأ اغنيته عند الساعة الثامنة، تمامًا بعد غروب الشمس، لكننا، كنا نرى من شباك الحمام الصغير أن الشمس قد غابت خلف البحر، ولم نُرد أن نتأخر أكثر. أدركنا كذلك، أن الوقت قد تأخرّ على الدكاكين التي أغلقت أبوابها، وأن أصحاب الدكاكين كذلك لا بد قد أغلقوا، لكي يروا المُطرب هم أيضًا. كان من أولئك المطربين الذين يُغلق الناس دكاكينهم لكي يروهم، أو ربمّا لأن حيّنا كان صغيرًا، ولا يحدث فيه الكثير، ليس أكثر من أن يُلف الشُبان بسيّارتهم، وأن يجلس أهلي، مثل كلّ الجيران عند نهاية المساء على الشُرفات. لعلّه السبب الثاني هو الأرجح، إذ أنه لم يكن مطربًا من أولئك الذين يُعلّق الشُبان صورهم في الغرف. إنتبهنا أن مرطبان الجل كان قد انتهى، وأننا، لن نستطيع الخروج هكذا، عندما نظرنا إلى أنفسنا، أنا وهي في المرآة ونحن نضحك.
-نجلس على الشُرفة، الوقت تأخر أصلًا، قلت لها، ونحن لا نزال في ضحكنا
-لا لا كل يوم نجلس على الشُرفة، أريد أن أرى المطرب
-منحط شامبو
-شامبو؟
-إيه شامبو
-كيف يعني شامبو؟
-شامبو متل الجيل يعني، نفس الشي
-شامبو؟ لا
-إيه شامبو*
كنّا في آخر الصف، مع كلّ الذين أتوا متأخرين، وكان المُطرب وكأنه دائمًا في مُنتصف أغنيته، كأننا لم نُدرك البداية، ونهاية الأُغنية لا تأتي، وصلنا هكذا، في المنتصف، مع كلّ الذين وصلوا مثلنا، كأن أحدًا لم يرى المطرب إذ بدأ، الشبان والصبايا في السيارات، وأصحاب الدكاكين ومحلات الألعاب الذين أغلقوا دكاكينهم، ونحن، أنا وأختي، الذين نسينا شكل رؤوسنا المضحكة، وكدنا نُقسم بأن هذه الأغنية لا وقت لها، وأنها لم تبدأ ولن تنتهي، وكدنا نجزم بأن الصوت كان يلفّ بيتنا، وكلّ بيوت الحيّ، حتى البعيدة منها والجالسين على بلاكينها.
ــــــ
هكذا ننسى الوقت، وننسى مواعيدنا. قالت لي بنغلا، بعد أن أنهت القصص الثلاث. وأنا، عندما أحسست بالهواء الخفيف يلف وجهينا، أدركت أننا رُبما مشينا لساعة، وأن زُرقة آخر النهار التي لا تدوم عادةً لأكثر من دقائق، كانت لا تزال، فوق رؤوس الأشجار الناعمة.